أسباب الهجرة من العام 1860 وحتى العام 1920
لكل سبب علة، ولكل هجرة دوافع، فالانسان، مطلق انسان، لا يقوم بعمل، خصوصا إذا كان من نوع توضيب أمتعته والبحث عن وطن بديل، إذا لم يكن قد بلغ ذروة اليأس من جدوى بقائه في موطئ عمره... والهجرة، كما نعرف، ليست وليدة البارحة، بل بات بينها وبين الشعوب علاقة ودّ. ولعلها أحد أهم أسس تطور الحضارات وانتشارها في العالم
إذا كان هذا ما يجري في مختلف أنحاء العالم فما هي، بالتحديد، حال لبنان؟
عمر الهجرة اللبنانية من عمر تاريخ لبنان. انها قصة شعب طالما شعر بالتهديد. شعبٌ كافح وجاهد في سبيل حريته واستقلاله وعيشه الكريم، فاقتحم البحر وعبر اليابسة متلمسا مستقبله. وأولى مشاهد الهجرة اللبنانية تلوح أيام الفينيقيين الذين استخدموا البحر وسيلة نقل وانتقال، فقطعوا مسافات وأنشأوا في كل بلد حطوا فيه مستعمرة. اخترعوا الأبجدية، أساس لغاتنا، وحملوها الى كل العالم. وبلغوا شمال أفريقيا، وبنوا فيها مدينة قرطاجة، تونس حاليا، التي نافست روما في ميادين مختلفة. وتمركزوا أيضا في اليونان وفي مختلف أنحاء الأمبراطورية الرومانية. وتوسعوا في أسبانيا وانتشروا على شواطئ انكلترا. وسميت القارة الأوروبية، كما هو معلوم، تيمنا بفتاة فينيقية: أوروب
اجتاز الفنيقيّيون الأطلسي، وداروا حول افريقيا واكتشفوا اميركا قبل كريستوف كولومبوس، بدليل وجود كتابات كثيرة في البرازيل، حفرت على صخرة
Pouso Alto
في منطقة
Paraíba
وصخرة
Pedra da Gávea
في منطقة
Rio de Janeiro
والكتابات البارزة في الولايات المتحدة الأميركيّة على صخرة
Dighton Rock
في ولاية
Massachussetts
السبب الأول والأهم للهجرة اللبنانية كان كسب الرزق والتجارة، وتدريجيا، مع مرور العقود، تحولت الهجرة الى اغتراب طويل طويل... واشتدت في العصور الوسطى، خصوصا في منطقة جبل لبنان، التي ارتاد بعض أهاليها عواصم التجارة العالمية مثل بيزا وجنوا ونيس والبندقية. وتحولت الهجرة في عهد المماليك الى هرب من الاضطهاد الديني، والوجهات الجديدة كانت القدس ورودس ومالطا وقبرص
لعبت الحروب دورها في الموضوع، بعدما أصبح لبنان مسرحاً لأحداث عبثية وفتن وثورات كانت غالبا خارجية الامتداد، ولاقى أهل هذا البلد الجميل ضغوطات وعذابات وواجهوا الضيق المعنوي والمادي، ولا سيّما منهم مسيحيو الجبل، ما اضطّرهم إلى اتخاذ خيار الهجرة هربا من واقع أليم
يبقى أن الإغتراب الحقيقي الواسع بدأ عملياً عام 1860 واستمرّ حتى العام 1920 تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير. فتضاءل بعد هذا الإعلان نسبيا، وعاد ونشط في منتصف سبعينات القرن الماضي، وتحديدا مع بداية الحرب اللبنانية وما زال مستمرا حتى اليوم
في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين شهدت حركة الجهرة اللبنانية إلى القارة الأميركية الكثير من التطور. ففي البداية كانت الهجرة تتم عشوائياً، بمعنى أن المهاجر ما كان ليهتم كثيراً بالمكان الذي سيستقر به، ذلك أن جل همه كان محصوراً بالتخلص من حالة الفقر والظلم التي عاشها في موطنه الأصلي. لذلك كان يرتضي الحلول في أي مكان، في مقر إقامته الجديد، شرط أن يوفر له هذا المكان ظروف العمل المعقولة، ويدر عليه ربحاً ما يرسل جزءاً منه إلى ذويه، ويحتفظ بالباقي لتكوين رأسمال ربما يكون زوادة له إذا ما صمم على العودة، ذات يوم، نهائياً إلى مسقط رأسه
تنطبق أسباب ودوافع الهجرة اللبنانيّة العامة الى كافة البلدان على الهجرة البعبداتيّة بشكل عام، وإنما هناك أسباب وعوامل خاصّة ببعض البلدان التي قصدها اللبنانيّين شجّعت الهجرة أو إختيار إحدى هذه البلدان
بدأت الهجرة اللبنانيّة الاولى بإتجاه القارة الأميركيّة، وقد إعتمد المهاجرون اللبنانيّون المهنة نفسها ألا وهي التجارة، عكس مهنتهم الأساسيّة في لبنان والتي كانت ترتكز أساساً على الزراعة، فأصبحوا تجاراً جوَّالين عُرفوا في البرازيل بالـ
Mascate
وفي الولايات المتحدة الأميركيّة بالـ
Peddler
أو ما أطلق عليهم اسم "تجَّار الكشّة" (والكشّة هي كلمة برتغالية وتعني الصندوق). لقد اعتمدوا الكشة لأنها عمل لا يتطلب الخبرة والعلم ولا رأسمالاً ولا مهارات لغوية متقدمة، ولأنها ذات مردود سريع، واستقلالية في التحرك، مشرعة على شتى أنواع التغيير، وهي حرة لا دوام عمل لها، عدتها صندوق خشبي تصل زنته أحياناً إلى 50 كلغ، يحمله البائع على ظهره ويسير به مسافات طويلة تبدأ عند الفجر ولا تنتهي إلا عند غروب الشمس. وكانوا يضعون في الصندوق بعض الحاجات من خيوط وإبر ودبابيس وجوارب وصابون وعلب السجائر وأمشاط ومرايا وعطور وألبسة داخلية وأنسجة وثياب جاهزة ... ويبيعونها في شوارع المدن وفي الأرياف. وقد عُرفوا أيضاً باسم "أتراك التسليفات" لأنهم كانوا يبيعون بضائعهم بالدَين إلى مدة معينة، كما أطلق عليهم في بعض المناطق اسم "أصحاب الطَرقة" لأن المتر الخشبي الذي استعملوه للقماش كان كمطرقة مؤلفة من قطعتين من الخشب موصولتين بسوار جلدي، وكانت هاتان القطعتان تُحدثان لدى ضرب إحداهما بالأخرى صوتاً (تراك تراك) معلناً عن وصول البائع الجوَّال
كان تجار الكشّة يبدأون عملهم في الصباح الباكر فيجتازون الشوارع والطرق باحثين عن البيوت ومتحملين الحر والبرد والمطر، مزوِّدين أنفسهم خبزاً وجبناً وموزاً ليأكلوا الوجبة الوحيدة التي كان في إمكانهم تناولها خلال النهار. إجتازوا المناطق من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب، ومرّوا في الضواحي والمدن الداخلية والمزارع وقلب الغابات والسهول النائية ، و قطعوا سيراً على الأقدام أو على ظهور الخيل طرقاً يتصاعد منها الغبار أو موحلة
واجهتهم مخاطر كثيرة منها وعورة المناطق وقطَّاع الطرق، والحيوانات المفترسة، فعرفوا الجوع والإعياء والمبيت في العراء أو في الحظائر أو على العشب الرطب، وتمضية ليالٍ طوال من الجوع وجفاف الحلق. وتشققت أرجلهم من السير الطويل في أراضٍ وعرة. واعتدى عليهم اللصوص، فخسروا رفاق درب، وتحملوا شتّى أنواع العقبات من تعديات وإهانات وإغلاق الأبواب في وجوههم وغيرها... ولحقت بهم الإهانات، واضطروا إلى الفرار من فوهات بنادق المزارعين التي وجهت إلى صدورهم، والهرب من وجه كلاب مسعورة تطاردهم. لكن المنتشرين عرفوا كيف يصبرون ويتجاوزون صعابهم بدهاء وحذق، معتمدين على ما كسبه بعضهم من معرفة بعادات البلاد وتقاليدها
تجارة الكشّة مهّدت الطريق الى حياة أفضل، إنتقلوا بعدها الى فتح محلاّت تجاريّة في أماكن عدة، وأخذت شهرتهم تكبر شيئاً فشيئاً. وقد برعوا في مجالات عدة مثل الصناعة والزراعة والسياسة والطب والمحاماة والعلوم والهندسة والصيرفة والأدب وغيرها، ووصلوا الى مراكز مهمّة وعاليّة جدّاً، جعلتهم شعباً مميّزاً
يقع لبنان في نقطة إلتقت عندها عبر التاريخ مختلف الشعوب، وانفرد بموقع جغرافي مهمّ كجسر يربط الشرق بالغرب. وبسبب موقع لبنان حيث الجبل والبحر والسهول الضّيقة والشواطىء الصخرية ... وتركيبة طوبوغرافيّته، فَرَضت عليه ان ينفتح على العالم، فساهمت في خلق الشخصية اللبنانية الفريدة في الحب للحرية، والرغبة في المغامرة. فتولّدت رغبة الهجرة والإتجار، وهانت عليه أمور ترك البلاد والإغتراب
الزراعة
ان أول سبب يدعو الى الهجرة هو الفقر الذي يهرب منه الإنسان في سبيل البقاء على قيد الحياة. كانت الزراعة في لبنان تُعتبر المورد الأساسي الذي كانت تعتمد عليه أكثرية السّكان. وقد ظلّت الزراعة عاجزة عن تأمين الإنتاج المطلوب، لأسباب عدة أهمها
ضيق الأراضي الزراعية ضمن مناطق جبلية صخرية
جهل الفلاح للطرق الزراعية المتطورة، فضلاً عن تواتر فترات الجفاف
تطوّر زراعة التوت على حساب الزراعات الأخرى
الإقطاع المتسلّط، ولا سيّما في الولايات الخاضعة للسلطنة العثمانيّة، والذي تمثّل باستغلال الفلاحين وبساطتهم، وأثقل كواهلهم بالأعباء المرهقة المتعددة
المصادرات وأعمال السخرة التي مورست بحق الفلاحين
كانت عمليات الإقراض نادرة، وتتمّ خفية، وبشروط باهظة. ما أجبر الفلاح اللبناني على بيع غلّته لدائنه بأبخس الأسعار
الأمراض التي كانت تصيب المحاصيل الزراعيّة وتسبّب للفلاحين أضراراً جسيمة
الصعوبات في تصريف الإنتاج
فُرضت على الفلاحين ضرائب كثيرة كانت تُستَوفى مضاعفةً عمّا هي عليه، فاُكره الجميع على دفعها، وقامت ثورات في مختلف المناطق اللبنانية رافضة المشروع الضريبي. كانت هذه الضرائب تُرهق الفلاح وتُثقـله بحيث كان يدفعها كل شخص يتراوح عمره بين 18 و 60 سنة. ولم يقتصر التذمّر على الضرائب الفاحشة فقط، بل شمل أيضاً الطريقة الكيفية والفظّة في تحصيلها ما أضّر بمصالح الفلاّحين وزاد من إرهاقهم، مما شجّعهم على مغادرة البلاد
وإن أبرز المزروعات التي إعتنى بها اللبنانيّون كانت الزيتون والكرمة والتوت
فقد شكّل الزيتون الذي زُرع في معظم المناطق الساحليّة والجبليّة مورداً مهمّاً وأساسيّاً في الحياة اللبنانية. إلا أن عوامل عديدة لا سيّما منها الهبوط في الأسعار من جرّاء غزو الزيت الأوروبي المستخرج من السمسم وغيره، أضعفت من محصوله وإنتاجه
امّا الكرمة، التي كانت ثاني أهمّ إنتاج اللبنانيين بعد تربية دودة القزّ، فقد أصيبت ايضاً زراعتها بالإنحطاط والتقهقر، ولم يتوفر لها معامل مُتطوّرة لإستخراج النبيذ والعرق (العرق هو مشروب لبناني يُستخرج من العنب). وغالباً ما أصيبت الكروم بأمراض لم يستطع المزارع مواجهتها بسبب تقنيّته البدائيّة
وأما زراعة التوت، التي كانت أهم وأكبر إنتاج زراعي في لبنان كونها الأساسيّة التي تفيد في تغذية دودة القزّ التي تُنتج الحرير، فقد إختارها اللبناني لتَعَذّر زراعة الحبوب في الجبل، وكان إنتاج الحرير يُعد من أهم المداخيل، وإنما عوامل عدّة واجهها هذا القطاع، مما أدّى الى زواله
الصناعة
اقتصرت الصناعات التي كانت سائدة في المجتمع اللبناني على أعمال عائليّة صغيرة وبسيطة وعلى أشغال يدويّة وحِرَفيّة بدائيّة مثل غـزل الحرير والحياكة الصّوفيـّة والقطنيـّة والدّباغة وصناعة الصّابون والسكافة والخياطة وتقطير الكحول وإستخراج الزيت
أما صناعة الحرير فكان لها أهميـّة كبرى في الإقتصاد الوطني، اذ صرف الفلاّح اللبناني إهتمامه الى تربية دودة القزّ، بإعتبار موسم الحرير من أكبر الدّعائم الإقتصاديـّة، حيث شكّل نسبة 60% من واردات الجبل، وأصبح الإنتاج يُصدر معظمه الى فرنسا. وبالرغم من ذلك، أخذت تربية دودة القزّ ومعها صناعة الحرير بالتقهقر والإنحطاط، ويعود السبب في ذلك الى عدة عوامل أهمها
الأمراض التي أصابت أغراس التوت ودودة القـزّ
جهل المزارع والصناعي للطرق الحديثة في تربية وصناعة حلّ الحرير والنسيج
مزاحمة المنسوجات الإفرنجيـّة الدقيقة الصنع والرخيصة الثمن والجميلة المنظر للمنسوجات الوطنيـّة اللبنانيـّة
شقّ قناة السويس في مصر، في العام 1869 الذي فتح الباب أمام الشرق الأقصى، فزاحم الحرير الصناعي الياباني والصيني الحرير اللبناني في أسواق أوروبا
ولهذه الأسباب، خسر فريق من التجّار أمواله وأوقف بعض الصناعيّين معاملهم، ما قلّل من عدد المعامل والأنوال في القرى التي كانت مشهورة بصناعة الحرير مثل بعبدات، التي كان يوجد فيها 12 معملاً للحرير (كرخانة) قبل الحرب العالميّة الأولى. وبذلك عمـّت موجة من البطالة، وعزم فريق من اللبنانيين على الهجرة
التجارة
لقد تحّول قسم من اللبنانيين الى العمل في قطاع التّجارة التي ترتبط بموقع البلاد الجغرافي والطبيعي، وانما بدا انّه لا يمكن الإعتماد عليه بحيث لا منفذ بحري للجبل ولا مواد كافية للتجارة، وميدان العمل ضيـّق، ما دفع بالكثير الى مغادرة وطنهم وهجره من أجل تأمين القوت اليومي والإسترزاق
فضلاً عن ذلك، كانت المواصلات رديئة وسيّئة وقليلة، والإنتقال يتمّ على ظهور الحمير أو البغال أو الجِمال... وان الكثيرون قد تجنّبوا إستعمال العربة خوفاً من اللصوص وقطّاع الطرق ورجال السلطة
كان لإتجاهات السياسة العثمانية على لبنان أثر بيّن في هجرة أبنائه، وكان تعدّد الأديان والمذاهب يتحكّم في ضعف جبل لبنان. إستفاد العثمانيّون من ذلك، واتبعوا سياسة فرّق تسد، وزرعوا بذور الفوضى والتفرقة بين الطبقات الإجتماعيّة والمذاهب الدينيّة، وأصبح الجبل مسرحاً للمذابح والفتن
وفي العام 1860 حصلَت مجازر بين المسيحيّين الموارنة خاصةً والدروز (الموارنة يتبعون المذهب الماروني الذي هو فرع مسيحي كاثوليكي شرقي يخضع لسلطة الفاتيكان، ويُنسب الى القدّيس مارون، وأما الدروز فهم فرقة دينيّة تُنسب الى الإسلام) شمَلت لبنان كلّه تقريباً، فكانت النتيجة قتل آلاف المسيحيّين، ونهب وتخريب وتدمير مئات المنازل والمدارس والأديرة والكنائس والقرى
وعلى أثر هذه المجازر، تدخّلت بعض الدول الأوروبيّة وعقدَت مع السلطنة العثمانيّة تسويةَ في حزيران 1861، صدر بموجبها نظام عُرف بالبروتوكول، قضى بسلخ مناطق الشمال والجنوب والبقاع وبيروت الغنيّة بسهولها الزراعيّة، عن منطقة جبل لبنان الجبليّة الصخريّة، وإخضاعها للحكم المباشر للسلطنة العثمانيّة، كما تم الإتفاق على تعيين متصرّف مسيحي غير لبناني على جبل لبنان - نشير هنا الى أن السلطة العثمانيّة كانت تحكم المنطقة العربيّة والبلقان حتى العام 1918، واما تركيا الحاليّة فأصبحت جمهوريّة سنة 1923 بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الأولى
وبذلك، أصبحت الطائفيّة أساس كلّ شيء في نظام الحكم، ما أَجبَر السكّان على المجاعة أو الهجرة. وقد فُرضت ضرائب جديدة على الجبل، وفُرض التجنيد الإجباري في المناطق الخاضعة للسلطنة العثمانيّة، أي بإستثناء منطقة جبل لبنان، كما فُرضت تذاكر عثمانية عليهم في محاولة لتتريك اللبنانيّين، مما ساهم في هجرة الكثير من اللبنانيّين
Turcos من هنا أتت تسمية المهاجرين بالـ
وهذه التسمية لا تزال وللأسف حتى اليوم، تُطلق على الذين هم من أصل لبناني أو سوري في بلاد الإغتراب
ولعلّ أحسن تصوير لتلك الحالة، ما جاء على لسان أحد الذين هاجروا الى البرازيل عام 1891 في رسالة وجّهها الى ذويه
إننا نرى الآن أنفسنا احراراً في بلاد الحرية، نجاهر في أقوالنا وأعمالنا، ولا نخشى لومة لائم. نسافر من بلد الى آخر، ونحمل معنا المال كأننا في حضن أمّنا، ولا يداخلنا فكرة ان نلتقي قطّاع الطرق بوادي القرن (بين سوريا ولبنان) ولا خيّالة الأكراد في المعلـّقة (قرب زحلة، عاصمة محافظة البقاع) ولا من يعتدي علينا من قبضايات بيروت ورُعاعها، او من يَنهب مالنا وأغراضنا على ميناها ... إن تذكار هذه الأمور يؤلمني جداً
إن ظلم الحكومة التركية كان من أهم أسباب الهجرة، وان طلب الحرية والسلام كان سبب كفر الكثيرين ببلادهم وهجرتهم الى الخارج. وقد سُئل الكثير من المغتربين عن دوافع هجرتهم، فأجابوا ان السبب السياسي كان من أهم العوامل، وقد رأى أحد الكتّاب عبارة مكتوبة على رقعة في بيت احد المهاجرين جاء فيها: ها نحن والاولاد سُعدنا بالحرية
يُعتبر العامل الديني من الدوافع الكبرى التي تُحمل الناس على الهجرة. فقد ظلّ اللبنانيون طوال عدّة أجيال، بعيدين عن كل ما يسيء الى العلاقات الودية بين مختلف مذاهبهم وطوائفهم، وذلك حتى مجيء الحكم المصري عام 1831، الذي كان من نتائجه ان تحركت النعرة الطائفية خاصةً بين المسيحيّين والدروز، ولم يكن الذنب ذنبهم، بل سبّب ذلك الدسائس الدولية والمطامع الإستعمارية
كان المجتمع اللبناني ينقسم الى طبقتين، طبقة الفلاحين وطبقة الإقطاعيين والأسياد. فقد نما الأسياد بالبحبوحة والرخاء بينما عاش الفلاّحون بالذلّ والفقر والبؤس، إذ كانت معظم بيوتهم مبنية من اللبن وكان البيت مؤلفاً من غرفة واحدة واسعة، تتقاسمها افراد العائلة مع مواشيهم، وارض غرفهم من تراب مدلوك ولا مقاعد ولا كراسي. وجاءت الإنشقاقات الدينية والفتن الأهلية التي جلبت الخراب والدمار
بالإضافة الى ذلك، تزايدَ عدد السكان، وقد قابله نقص في الموارد، وكان ذلك من أهم الأسباب لا بل السبب الحقيقي الذي أدى الى الضيق الاقتصادي وبالتالي الى الهجرة. فكثرت الأيدي العاطلة عن العمل، وعاش قسم كبير في حالات العوز والحاجة، ولم يجد اللبنانيون حلاّ لمشكلتهم الغذائية سوى الهجرة. ولقد ساهمت التقنيات الطبية الآتية من اوروبا، من تلقيح وغيره، الى ارتفاع في المستوى الصحي والى تخفيض في الوفيات، ما أدى الى التزايد الغير المتوازن لعدد السكان في المناطق الجبلية
وقد اعتبر الصحافي السياسي البعبداتي نعوم كسروان لبكي ان الإنشقاق الإجتماعي كان من أهم العوامل التي دفعت بمئتي ألف من أبناء لبنان الى مغادرته. ولذا إعتُبر هذا الإنشقاق أب الهجرة
هذا وقد تطوّر التعليم بفضل الإرساليّات الأجنبيّة والمؤسسات الرهبانيّة، وعمّت المطابع وفُتحت المدارس والجامعات، لاسيما منها مدرسة الأميركيّين في بيروت عام 1834، ثم أتبعوها بالجامعة الأميركيّة عام 1866، ولحقهم اليسوعيّون بجامعة مار يوسف عام 1875، جامعتين تُعتبران اليوم من أهم الجامعات في لبنان والشرق. وقد دل إحصاء عام 1914 على أنّ نسبة المتعلّمين في لبنان بلغت 50% وهي أعلى نسبة في أي بلد في العالم خارج أوروبا وأميركا الشماليّة. هذه النسبة العالية كانت سبباً آخر للتأثير في الهجرة. يضاف إلى ذلك كلّه إقفال السلطنة العثمانيّة أبواب الحرّيّات، ولا سيّما حرّيّة الرأي والقول والقلم
مساعـي المـبشـريـّن والمُرسلين
نشطت حركة المؤسّسات التبشيريّة والإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية في لبنان، في القرن التاسع عشر في مجالات عدة أهمها التعليم والإستشفاء، فتطوّرت الحركة الفكريّة والثقافيّة والإجتماعيّة والإقتصادية والعمرانية. وظهرت طبقة مثقَّفة وعاطلة عن العمل رغبت في تحسين أحوالها الماديّة والإجتماعيّة، وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك مغادرة الوطن والهجرة
حركـة السيّاح
عرفت الحركة السياحيّة نحو لبنان والشرق نشاطاً ملحوظاً لغنى الشرق بمناطقه الأثرية ووجود الأراضي المقدسة المسيحية فيه. وقد لفت السيّاح الأنظار بمظهرهم الغني ومصاريفهم الضخمة، فتركوا لدى الكثير من اللبنانيّين فكرة طيّبة عنهم وعن بلدانهم وخيراتهم، الأمر الذي ساهم جداً في ترغيب اللبنانيّين بالرحيل والهجرة
مساعي الدائنين ودور الوسـطـاء وإغرءات السماسرة
كان اللبناني يحاول أن يجرّب حظّه في بلد آخر علّه يتخلّص من الحالة التي يعيشها. ولكي يتدبّر ثمن بطاقة السفر (الناولون) ومصاريف الرحلة، استلف مبالغ مقابل رهن ما يملك من مسكنٍ أو قطعة أرض صغيرة ويتعهّد خطّياً وشفهيّاً بتسديد المال والفائدة، بعد تحقيقه أرباحاً في المهجر
إضافة الى ذلك، كان المسافر يحتاج الى كثير من المعاملات والمراجعات وإعداد الإجازات وغيرها.... فكان لا بد من وسيط لذلك وخاصة ليستحصل على التذكرة العثمانية التي تجيز له السفر. والنتيجة، هجرة الشبّان الذين لم يخطر ببالهم يوما تخطّي الحدود اللبنانية. ولم يقتصر الدور على الوسطاء بل على النصّاح والسماسرة الذين راحوا يقصدون القرى ويرغّبون الشباب في المهاجرة، بعدما يكثرون الأحاديث الخلاّبة عن بلاد الإغتراب
رسـائـل المهاجريـن الى ذويـهم
غادر المهاجر أهله وقريته وبات الجميع يترقـّب ورود رسائل منه تنقل إليهم أخباره. فغدا وصول الرسالة حدثاً تاريخياً في القرية. تُقرأ الرسالة عدة مرات على مسمع حفل كبير من الناس، ثم يستتبع تلاوتها اجتماعات وتفسيرات تحرك عند بعض السامعين روح الفضولية والغيرة من غِنى العالم الجديد ومجالات العمل فيه، ويندهشون من أجور المهاجرين في بلاد الإغتراب مقارنةً مع أجورهم في لبنان. وكانت معظم الرسائل تحمل دعوات مباشرة ونداءات الى الأهل والأخوة تحثهم الى ترك الوطن والإلتحاق بهم
أموال المغتربين وعودة المهاجرين
شكّلت الحوالات الماليّة التي كان يرسلها المغتربون إلى ذويهم مساعدة ثمينة جدّاً لهم، وكانت برهاناً ملموساً وجليّاً عن غنى بلدان المهجر ووسيلة للسفر في الوقت نفسه. هذا وقد أثار مستوى الحياة الجديد الذي عاش فيه المهاجرون العائدون وذووهم المقيمون، فضول سائر مواطنيهم، مما دفع بالكثيرين منهم إلى تجربة حظهم في المهجر
خيـبـات الامـل والمخـاوف الشخـصيـة
دوافع عديدة أدت الى الهجرة ويعود بعضها الى أمور شخصية أو عائلية، كخلاف نشب بين عائلتين، او بين افراد الأسرة الواحدة، او بين الزوج والزوجة، أو فسخ خطبة، او خلاف مع الجيران، أو احتراق المحصول الزراعي، أو خسارة حيوانات النقل أو الفلاحة، أو أموراً سياسية واجتماعية دفعت البعض للهرب من وجه العدالة والقانون، فضلاً عن حالات الرعب والخوف من جراء بعض الأحداث الأمنية والإعتداءات وغيرها
عندما حلّت الحرب العالميّة الأولى عام 1914، تأثّر لبنان فيها بشكل مباشر، فحاصرت السلطات التركيّة لبنان وأقفلت حدوده البحريّة والبريّة، فتوقّفت حركة الملاحة والسفر. بالإضافة الى ذلك أتت موجات الجَرَد التي أكلت الأخضر واليابس، فأدّى ذلك الى مجاعة كبيرة ورهيبة والى أمراض عديدة وخوف...كل هذه العوامل، قضَت على ثُلث سكان لبنان تقريباً
وعند إنتهاء الحرب العالميّة هذه، إستأنف الشباب اللبناني السفر بحثاً عن مجالات العمل والثروة، وبدأوا بتحويل الأموال لإعالة أهلهم الذين رزحوا طوال فترة الحرب تحت نير العثمانيين واضطهادهم. وقد بدأت تمتدّ مرحلة الهجرة الحديثة، منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وصولاً إلى إعلان الجمهوريّة اللبنانيّة عام 1926 ومن ثم إستقلال لبنان في العام 1943 وانتهاء الإنتداب الفرنسي على لبنان
وفي العام 1975 بدأت حرب الآخرين على أرض لبنان والتي أدّت إلى مقتل نحو 100000 لبناني، وجرح أكثر من ربع مليون، وتهجير أكثر من 800000
ولأسباب سياسية وأمنيّة وإجتماعيّة واقتصاديّة عديدة، لا تزال حركة الهجرة ناشطة وتتزايد تدريجيّاً حتى اليوم